معركة نهاوند: فتح الفتوح الذي لا مثيل له
تُعد معركة نهاوند من أعظم فتوحات التاريخ الإسلامي، فبعد أن لاقى الفرس هزائم متتالية على يد المسلمين، أدركوا أنهم لا يملكون خيارًا سوى الانسحاب والتمركز في مدينة نهاوند الحصينة، متحصنين بجبالها الشاهقة. هذا الحصار، الذي استمر شهرًا كاملًا، كان من أشد الأوقات على المسلمين، فقد تزامن مع فصل الشتاء القارس، وكانت الظروف الجوية القاسية تشكل تحديًا لم يواجهوه من قبل.
حركة القعقاع بن عمرو التميمي: الخطة التي قلبت الموازين
لما طال الحصار، جمع قائد المسلمين النعمان بن مقرن أهل الرأي من جيشه للتشاور في كيفية إخراج الفرس من حصونهم. بعد نقاشات متعددة، تقدم طليحة الأسدي بخطة عبقرية، وهي إظهار الانسحاب الكامل للجيش الإسلامي، مع إرسال سرية صغيرة لإثارة غضب الفرس واستدراجهم. فإذا خرج الفرس، تظاهرت السرية بالفرار، ليظن الأعداء أن المسلمين قد هُزموا، فيخرجوا بجيشهم الكامل من الحصن، وحينها يعود المسلمون للانقضاض عليهم.
اختار النعمان بن مقرن لتنفيذ هذه المهمة الصعبة فارس المسلمين الذي وصفه أبو بكر الصديق بـ "إنه بألف رجل"، وهو القعقاع بن عمرو التميمي. تحرك القعقاع بفرقته في الظلام، بينما انسحب الجيش الإسلامي واختفى خلف جبل قريب. في الصباح، بدأت فرقة القعقاع برشق السهام على الحصن، فخرج الفرس للقتال وهم يظنون أنهم سيحققون نصرًا سهلًا. تراجع القعقاع بذكاء، مظهرًا الهزيمة، حتى خرج الفرس جميعًا من حصونهم، وراءهم حواجز من الحديد حتى لا يستطيعوا التراجع، ثم التحم الجيشان في معركة حامية الوطيس.
على الرغم من إلحاح بعض القادة على النعمان ببدء القتال، إلا أنه أصر على التأني، منتظرًا أحب الأوقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، وهو وقت الزوال. وبعد أن صلى الجيش صلاة الظهر، قام النعمان فيهم خطيبًا، وذكرهم بأمر دينهم وثباتهم، ودعا لهم أن يرزقهم الله إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر. ثم دعا الله أن يكون أول شهيد، وأَمَّنَ المسلمون على دعائه.
بعد الخطبة، تقدم النعمان بجيشه وكبّر ثلاث تكبيرات، وحمل الراية وانطلق كالبرق نحو الفرس. التحم المسلمون مع الفرس في معركة لم يشهدوا مثلها من قبل، حتى سقط النعمان بن مقرن شهيدًا بسهم استقر في قلبه، فغطاه أخوه نعيم بثوب حتى لا يرى المسلمون مصابهم، وحمل حذيفة بن اليمان الراية، واستمر القتال حتى الظلام، لتكون ليلة جديدة من ليالي الهرير.
وما يعلم جنود ربك إلا هو
انتهت المعركة بانتصار عظيم للمسلمين، وهزيمة ساحقة للفرس. قُتل من جيش الفرس 110 آلاف مقاتل، منهم 80 ألفًا لم يقتلوا بسيوف المسلمين، بل سقطوا في الهاوية السحيقة التي كانت خلفهم، وذلك بفضل حسن اختيار المسلمين لأرض المعركة. وفرّ 40 ألفًا من الفرس نحو مدينة همذان، بمن فيهم قائدهم الفيرزان.
أرسل المسلمون فرقة بقيادة القعقاع بن عمرو لمطاردة الفارين. وفي طريقهم، اعترض جيش الفيرزان جمالًا وبغالًا تحمل عسلًا، فقطعت الطريق عليهم، مما اضطرهم إلى النزول عن خيولهم والهرب في الجبال. فما كان من القعقاع إلا أن تتبع الفيرزان وقتله، ليتحقق النصر الإلهي بجند من جنود الله غير مرئيين، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}.
اللقاء مع عمر بن الخطاب وفتح الفتوح
قام الصحابي السائب بن الأقرع بجمع الغنائم والتوجه بها إلى المدينة المنورة. ولما رأى عمر بن الخطاب قدومه، سأله عن حال المسلمين. أجابه السائب بأن الله قد فتح عليهم فتحًا عظيمًا، ففرح عمر فرحًا شديدًا، ولكن سعادته تحولت إلى حزن عميق عندما علم باستشهاد النعمان بن مقرن، فبكى ونشج حتى بانت فروع كتفيه.
عندما سأله عمر عن الشهداء، أجابه السائب أن عددهم كبير، وأنهم لا يعرفون أنسابهم. فقال عمر مقولته الخالدة: "وما ضرَّهم ألا يعرفَهم عُمَرُ ابن أم عمر، إن الله الذي لاقَوْه يعرف وجوههم وأنسابهم."
سمي هذا الفتح في التاريخ بـ "فتح الفتوح"، لأنه كان الضربة القاضية التي أدت إلى انهيار الدولة الفارسية تمامًا، وفتح الطريق لانتشار الإسلام في عمق بلاد فارس. وقد أظهرت هذه المعركة إيمانًا عظيمًا، وحسن تخطيط، وقيادة حكيمة أدت إلى نصر لا ينسى في تاريخ الأمة.