معركة الدونونية: نصر باهر غيّر وجه الأندلس
شهد التاريخ الإسلامي انتصارات باهرة تجاوزت كل التوقعات، ومن هذه الانتصارات معركة الدونونية التي تعدّ واحدة من أروع مشاهد القوة والإيمان، حيث تجلت فيها أعلى قيم الإسلام في مواجهة تفوق الأعداء. وقعت المعركة في وقت كانت فيه الأندلس تتهاوى تحت وطأة التفرق والضعف، لكنها أثبتت أن النصر لا يأتي بالكثرة وحدها، بل بالإيمان والوحدة.
الأندلس بعد هزيمة العقاب
بعد الهزيمة الساحقة في معركة العقاب عام 609 هـ، تفككت دولة الموحدين في الأندلس. استغلت الممالك الإسبانية الفرصة، وراحت تنهش المدن والحصون الإسلامية، مستفيدة من الصراعات الداخلية بين المسلمين، خاصة بين محمد بن يوسف بن هود ومحمد بن يوسف بن نصر (ابن الأحمر). أدت هذه الخلافات إلى سقوط مدن إسلامية كبرى مثل قرطبة وإشبيلية، وانكمشت الأندلس المسلمة لتقتصر على غرناطة وما حولها.
هذا الوضع يكشف عن دروس تاريخية بالغة الأهمية، منها عواقب التفرق والتنازع بين المسلمين، واستغلال الأعداء لهذه الانقسامات. كما أنه يبرز خطورة الاستعانة بالكافرين على المسلمين، والركض وراء المناصب الفارغة في أوقات الأزمات.
غرناطة: دولة الأمل الأخيرة
أصبحت غرناطة الملاذ الأخير للمسلمين في الأندلس، ومنفذًا آمنًا لمن رفضوا العيش تحت حكم النصارى. نمت المدينة وازدادت كثافتها السكانية بفضل المهاجرين الذين حملوا معهم ثرواتهم وخبراتهم، مما جعلها "أندلس مصغرة" قوية. ورغم أن ابن الأحمر حكم غرناطة اسميًا تحت وصاية ملك قشتالة، إلا أن المدينة أصبحت شوكة في حلق الممالك النصرانية.
خلف ابن الأحمر ابنه أبو عبد الله محمد الفقيه، الذي أدرك أن غرناطة لن تصمد بمفردها أمام القوة القشتالية المتزايدة، فقرر الاستعانة بملوك المغرب، متبعًا سنة تاريخية قديمة حيث كان المسلمون في الأندلس يستوردون النصر من الخارج.
الدولة المرينية ورايات الجهاد
تولى الحكم في المغرب الأقصى يعقوب المنصور المريني، قائد مظفر ومؤمن، لم تهزم له راية قط. كانت الدولة المرينية فتية وقوية، وعندما وصلته استغاثة مسلمي الأندلس، رأى فيها فرصة لإحياء مجد الجهاد. قام بتوحيد صفوفه، وعقد صلحًا مع خصومه في المغرب، ثم عبر بجيشه إلى الأندلس، عازمًا على نصرة إخوانه.
معركة الدونونية الخالدة
بمجرد وصوله إلى الأندلس، عمل يعقوب المنصور المريني على إصلاح ذات البين بين أمراء المسلمين، وأعاد الروح القتالية في نفوسهم. توغل بجيشه في أراضي قشتالة، وحقق انتصارات متتالية، مما دفع القائد القشتالي دون نونيو دي لارا لحشد جيش ضخم لمواجهته.
في 9 سبتمبر 1275م (15 ربيع الأول 674هـ)، التقى الجيشان في معركة الدونونية. خاطب المنصور المريني جنوده بخطبة حماسية، مذكّرًا إياهم بفضل الشهادة والجنة، مما رفع معنوياتهم إلى أقصى درجة. وخلال المعركة، التي لم تدم طويلاً، تمكن الجيش الإسلامي من تحقيق نصر ساحق، حيث قُتل من الصليبيين 18 ألف جندي، بينهم قائدهم دون نونيو، وأُسر الآلاف.
نتائج المعركة وتأثيرها
كانت معركة الدونونية نصرًا عظيمًا وغير مسبوق منذ عقود. لم تكن مجرد انتصار عسكري، بل كانت نقطة تحول في تاريخ الأندلس.
- أوقفت زحف النصارى: أوقفت المعركة التوسع القشتالي مؤقتًا، وأعادت للمسلمين هيبتهم وقوتهم.
- أخرت سقوط غرناطة: بفضل هذا النصر، استمرت مملكة غرناطة في الصمود لأكثر من قرنين آخرين، لتصبح آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
- أعادت الأمل: منحت المعركة المسلمين في الأندلس أملًا جديدًا في البقاء والاستمرار، وأكدت أن الإيمان والوحدة قادران على تحقيق المستحيل.